معارك التبانة – الجزء الأول
منذ وصولي إلى لبنان حدثت معركتان اثنتان في "باب
الحرمان وجبله" كما يسميها أحد الكتاب في أحد المجلات الوطنية، يعني بذلك
"باب التبانة وجبل محسن"، المعركة الأولى أمتدت يومان إثنان فقط كنت في حينها
(عاطلة عن العمل) وبما أني لا أخاف (كطبيعة جميع اللبنانين) بقيت في باب التبانة
لكي أشاهد المعركة، ليس فرحاً وحباً بالإقتتال، ولكن أمضيت جزءاً من طفولتي في
منطقة "الزاهرية/ شارع لطيفة" القريب إلى حداً ما من
"التبانة"، حيث قيل في حينها أن المعارك لن تصل إلى تلك المنطقة فهي
بعيدة عن الاشتباكات، ولكن حرب "أبو عمار" كما يُسميها أهل طرابلس
اجتاحت طرابلس بأسرها ليس في التبانة فحسب بل امتدت أيضاً إلى الزاهرية والتل
وصولاً إلى الميناء، فلقد عشت تلك الحرب بأكملها وكنت في حينها صغيرة ولدي ذكريات
مؤلمة لا تُنسى عن تلك الفترة، ثم هاجرت وعدت بعد 24 عاماً إلى لبنان، لأجد ان
الحرب مازالت بإنتظاري ومازالت مستعرة،
أردت هذه المرة أن أرى طبيعة المعارك وكيف أصبحت وهل تغيرت عما سبق؟! لذلك بقيت،
أمضيت فترة المعركة وأنا أراقب الأحداث عن كثب، شاهدت "المقاتلين" وهم
يتناوبون بالسهر طوال الليل لحماية الشوارع خوفاً من نزول ما يُسمى بـ
"شبيحة" الأسد إلى التبانة وإرتكاب جرائمه المشهور بها بحق أبناءها.
في هذه المعركة صُدمت لما رأيت، فكلما نظرت إلى الشارع
لكي أشاهد المقاتلين ماذا يفعلون أجد أطفالاً صغاراً تقود المعركة دفاعاً عن
مناطقها، نعم أطفال صغار، أكبرهم سناً لم يتجاوز عامه السادس عشر، يحملون قطعة
"كلاشين" و"جعبة" لا تحوي أكثر من "مشط" واحد، ومع
ذلك فهم سعداء بذلك، ظانين أنهم سيحّمون حيهم بهذا "المشط" اليتيم،
يومان من المعركة ولم أشاهد سوى خمسة أو ستة رجال في الحي، ربما أقل من ذلك أيضاً،
الباقي كله أطفال، حتى أنهم لا يمتلكون سلاحاً، صعد أحد أبناء الجيران إلى بيتنا خلال الاشتباكات وقال
متحدثاً إلى أمه بأنهم بحاجة إلى رصاص، فلا يوجد في التبانة رصاص، ولا يستطيعون
الخروج من التبانة لجلب الرصاص بسبب وجود القناصة الذين حاصروا المنطقة بالكامل
فلم يستطع أحد الدخول أو الخروج من التبانة .... هنا بدأت بالابتسام بسخريةً،
طِفلةٌ صغار يقودون حرباً دفاعية ولا يملكون السلاح أو بمعنى أدق لا يملكون المال
لإمتلاك السلاح، ومع ذلك فهم يَرُدُون على أولائك القناصة القتلة، أسلوب قتالهم
مضحك أكثر منه مبكي، لا غرابة أن تصبح الحرب شيئاً مضحك، فإذا أصبحت الحرب
كخبزٍ يومي يعيشه هذا الشعب فلا بد أن
تصبح الحرب مضحكة، لماذا هو مضحك؟ لأن أسلوب القتال غير متكافىء على الإطلاق، ولا
تجوز المقارنة، فبينما أمطرنا جبل محسن بالإنيرجا طوال الليل (لقد أحصيت مع ساعات
الليل الأولى 25 قنبلة أنيرجا سقطت من الجبل على التبانة وبعدها مللت من كثرة العد
فتوقفت، إلا أن مغاوير الجبل الشجعان لم يملوا العّد وأستغرقوا الليل بطوله وهم
يمطرون باب التبانة التعيس بوابل من الأنيرجا حتى اليوم التالي، أظنهم تجاوزوا
المائة أو يزيد، ومع كل أنيرجا تسقط يهتز بنا المبنى إهتزازاً وبفعل أن بيوت
التبانة مبنية منذ مائة عام أو يزيد كثيراً لا قليلاً ولم يُجرى لها أي عملية ترميم
زيادة على ذلك أنها حضرت ثلاثون عاماً من الحروب والهزات الأرضية والقذائف وصواريخ
غراد السورية الشقيقة لا شقق الله لنا غبار في إقتلاع عيني حاكمها، فلذلك كنت أخشى
مع كل أنيرجا "تفئع" أن ينهَّد البيت على رؤوسنا، مع العلم أن أهل
التبانة وبابها لم يُطلقوا ولا حتى أنيرجا واحدة، ليس إستحياءاً من أهل الجبل
وخوفاً عليهم ولكن "العين بصيرة والإيد قصيرة"، فالأنيرجا ثمنها وثمن
الهاونات لا يقدر على شراءها إلا حزب الله وبالتالي فهو المموّن الرئيس للجبل، فهم
يُطلقون الأنيرجا والهاونات وكأنهم "عم يتسلوا بتفصفص بزر"، فلا بد أن
لديهم مخزون كبير منها ليُطلقوا هذا العدد الهائل في يومان فقط.
المضحك بالأمر أيضاً (أعتذر بشدة لأنني أمضيت المعركة
بطولها وأنا أضحك "قهراً" لسخافة ما شاهدته في تلك المعركة) نعم المضحك
بالأمر أنني شاهدت خمسين شاباً تقريباً يقفون في زقاق المنزل فانحنيت قليلاً إلى
الأمام لأرى ما الحدث الجلل الذي قد حصل ليتجمهر كل هؤلاء المغاوير الشجعان
المجاهدين في مكان واحد في مثل هذا التوقيت غير المناسب، فإذا بأحدهم قد أحضر
"بي سيفن" واحدة فقط وقد تحمل عبء ثمنها على عاتقه الشخصي بعد أن باع
سيارته، وهو يتحدث بهذا الأمر بكل فخر أمام الخمسين مُعجب الذين يقفون بقربه،
كانوا قد ألتموا عليها وكأنها شيء ثمين يجب رؤيته فقد لا يتكرر مشهد وجودها الفاتن
مرة أخرى في حيهم، فثمنها يتجاوز المليون ليرة، فيما أضخم مقاتل بينهم مرتبه
الشهري لا يتجاوز المائتي ألف ليرة، بل إن
من يقبض هكذا مرتب في باب التبانة يعتبرونه كتير "زنكيل" ويُشار إليه
بالبَنان ... لووول عدنا للضحك من جديد، ما علينا، نعود إلى قصة "البي
سيفن" اليتيمة المشوّقة، فما أن أنتهى مقاتلنا الفذ أبو خمسة عشر عاماً من
سرد قصة بيعه لسيارته "المحرتئة" و"دبرنا كم مبلغ من هون
وهونيك" على حسب قوله حتى بدأ وهو المزهوّ بنفسه لأنه يحمل هذا السلاح الفريد
من نوعه والمفقود في شوارع التبانة وبابها، حتى بدأ كل مقاتل (تضحكني كثيراً كلمة
مقاتل كلما تذكرت أعمار وأشكال وتصرفات من كانوا يقاتلون) بدأ كل مقاتل منهم
بالإسراع إلى أخذ صورة له بجانب هذه "البي سيفن" الرائعة الجمال، أعتقد
جميعهم قد أمضوا الساعة الكاملة وهم يتصورون، أحدهم تصوّر وهو يحملها على كتفه
والآخر تصور وهو يضعها واقفة أمامه وهو جالس، بينما الآخر تصوّر وهو يُقبلها من
فوهتها، لوول، لقد تفننوا بطريقة التصوير، ولكن المضحك المبكي في الأمر أن أحدهم
أمسك بها وقد حاول إبراز كل رجوليته في هذه اللقطة لكي تظهر في الصورة وهو يحمل
"البي سيفن" وهو مليء بالقوة والغضب ولكن لووول كان يحملها وفوهتها
موّجهة إلى الأرض وهو يقول "صورني خليا تطلع الصورة وكأني عم صوب على
الجبل" هنا أنبرى أحد أصدقائه قائلاً: "ولاه غشيم هيدي ما بتنحمل هاك
بدك توجه فوهتها لفوق ما على الأرض يا طشمة"، لووول حتى وهم يتصوّرون لا
يعرفون كيف يستعملوها، كل هذا الهرج والمرج والتصوير وحفل الأوتوغراف والمعارك من
فوق رؤوسهم "شغالة"، حتى أنه رغم أنني كنت أستمتع بمشاهدة صبية مراهقين
وهم يجعلون الحرب عبارة عن لهو ولعب وتصوير، إلا أنني فجأة ألقيت نظرة سريعة عليهم
وفكرت، كيف يتجمعون بهذا العدد الكبير في زقاق واحد في هكذا ظرف؟ ماذا لو نزلت
أنيرجا أو هاون في هذا الزقاق؟ سيتمزقون جميعاً، ألا يوجد قائد يوجههم ويُبين لهم
خطورة هذا الأمر، بالطبع لا يوجد، فلا يوجد إلا صبية صِغار كل همهم أن يحملوا
السلاح ويتباهون به كلٌ أمام منزل حبيبته لعلها تُعجب بشبوبيته الفريدة من نوعها
وهو يرتدي آلة القتل الغبية تلك التي لا تُسمن ولا تغني من جوع، ولكن هذا لا يهم
فقد تصوّر بها وسوف يضعها على الفايسبوك ويرسل نسخة منها إلى الحبيبة الغالية لكي
يزيد إعجابها اللامتناهي بهذا الغباء المستفحل بين مقاتلي المراهقة، المضحك في
الأمر أنني ظننت بعد حفل الإستقبال الصاخب الذي حظيت به الست "بي سيفن"
طوال ساعة من الزمن ظننت أنهم سوف يقومون بإطلاقها على الجبل (كنت أشاهد قبل مجيئي
إلى لبنان صور المقاتلين على الإنترنت والفيسبوك في التبانة وهم يُطلقون البي سفن
والهاونات على الجبل فظننت أنهم يُمطرون سكان الجبل بها لأفاجأ عند مجيئي إلى هنا
ومشاهدة تلك المعارك الوهمية أُصبت بالتشويش، حتى رأيت ما رأيت، وتأكدت من أنها
مجرد صور لمراهقين لا يملكون لا سلاح ولا من يحزنون، فمن يُشاهد تلك الصور على
الانترنت والفيسبوك يظن بأن مقاتلي التبانة مدججين بالسلاح بل ومعهم بيسيفينات
وهاونات في عصر الصور وأوهامها لتُغير مفهوم عبارة قديمة حيث يجب تصحيحها لتكون
"رب صورة أكذب من مئة خبر")، عودة إلى موضوعنا وصاحب البيسيفن المشهور،
فإذا بصاحبها المزهّو بنفسه بعد إنتهاء حفل الإستقبال يأخذها و"يضبها"
بكل هدوء بداخل حقيبة عسكرية أُعدت خصيصاً لها بكل هدوء وهو خائف عليها من أن
تُسرق أو تُنهب أو أو أو...... لووول لا أدري ربما أخذها ليضعها على جدار غرفة من
غرف منزله لتبقى هناك طوال الثلاثين عاماً المقبلة، أو حتى يُصاب منزله بطلقة
نارية أو قذيفة جبلية تُفجر البيت بما حوى، إنها غالية جداً عليه وعلى جيبته لدرجة
أنه "مستخسر أنوا" يُطلقها على الجبل، لووول.....مقاتلين، أليس الوضع
مضحك بالفعل.
إنتهت تلك المعركة المضحكة المبكية التي لم استطع فهمها
جيداً، فبينما كنت في الغربة أشاهد أخبار لبنان كنت أظن وحسب نشرات الأخبار
المخزية تلك على جميع القنوات بلا أستثناء بأن هناك حرباً حقيقية بين رجال في
التبانة وبابها ورجال في الجبل، لأفاجأ بأن الوضع جداً مهزلي، رجال في الجبل مدربة
يتقدمها عناصر من حزب الله متدربة على القنص بدقة مدججة بالأنيرجا والهاونات
والقناصين المحترفين مقابل طِفلةٌ صغار لا تدريب ولا تزويد لا بالمال ولا بالعتاد،
يجلس المقاتل في الجبل طوال الليل والنهار على متراسه يُحْضَرْ له الطعام والشراب
"لعند خدمته"، ويصل مصروفه إلى باب بيته غير عابيء بمشاكل الحياة، بينما
في التبانة يقاتل الفتى وهو يحمل هَمْ الأيام التي تغيّب فيها عن العمل وقبل أن
يُطلق رصاصة واحدة على الجبل "بيشيل" هم سعرها خوفاً من أنه لن يستطيع
أن يشتري غيرها، هذا عدا عن أنهم يقاتلون وهم جياع، فآخر الليل سمعت عدد منهم وأنا
مستلقية على سريري يُعبرون عن مدى جوعهم فهم يحرسون الحي منذ الصباح ولم يأكلوا
شيئاً، لقد أشفقت عليهم عندما سمعت كلامهم هذا، رغم رفضي لكل ما يقومون به فتوجهت
إلى المطبخ وفتحت الثلاجة وأخرجت منها بعض الأطعمة وأحضرت ربطة خبز وأردت أن
أعطيهم إياها، ولكنني أحجمت في اللحظة الأخيرة، فلقد غازلني أحد هؤلاء المجاهدين
في الصباح فما يُدريني أن أحدهم لن يُعيد الكرة الآن ويُهينني بمغازلة من هنا
وأخرى من هناك في منتصف هذا الليل الهاديء وأنا أحاول مساعدتهم، أو سيعتبر أحد
هؤلاء "المجاهدين" أنني معجبة بجماله الآخاذ وخصوصاً أن بارودته
"حسب ظنه" زادته جمالاً وفتنة، فأحجمت وغيرت رأي وقلت في نفسي لو كانوا
يقاتلون من قلب ورب "متل ما بيقولوا" ما ترددت ثانية، ولكنهم مجرد زعران
حاول أحدهم في ذلك اليوم إهانتي ببعض كلام الغزل السخيف أمام أصحابه، مع العلم أن
كل واحد منهم "أد أبني" لو رُزقت بولد في غابر الأزمان، لهذا أنا أضحك
منذ البداية على هذه المعركة السخيفة التي صوّر فيها الإعلام بأن التبانة بها
مقاتلين من القاعدة ومن السلفيين ومن الجهاديين لووول (واحد من الجهاديين غازلني
وأنا أقف على البالكون أتفرج على المعركة الجهادية التي ستودي بنا جميعاً إلى
الجنة) مهازل هذه الحياة كثيرة ومعارك التبانة والجبل أحدها بالتأكيد.
_____________________
معارك التبانة – الجزء الثاني
المعركة الثانية لم تختلف كثيراً عن سابقتها، إلا أنني
كنت أكثر تركيزاً هذه المرة على طريقة قتال بعض فتيان التبانة وكيف يردُون على
القناصة المحترفين الموجودين في الجبل، فكان الأمر جداً مضحك أيضاً، فبينما قناصة
حزب الله في الجبل يُركزون قَنَاصَاتِهِم على كل شارع وكل ممر وكل زُقاق مانعين أي
من سكان هذه المنطقة من المرور، حتى النساء والأطفال يتم رميهم بالرصاص إذا
تحركوا، لدرجة أنه قد فُقد الخبز في المدينة، فممنوع أن يمر لا بشر ولا حجر، وبقي
السكان طيلة أربعة أيام غير قادرين على تأمين ربطة الخبز بسبب القناصة الجبناء
القابعين في الجبل، فبينما هم بالأعلى يمنعون كل مار من المرور كان فتيان التبانة
المراهقين يُطلقون النار عشوائياً على الجبل دون تحديد وجهة ودون تحديد بيت أو
منزل أو مقاتل فقط تنظر إليه وقف خلف الجدار ورفع بندقيه متهيئاً لأن يصيب شيء ما،
فإذا به ينبري بسرعة إلى السكة مبتعداً خطوات قليلة جداً عن جداره الحامي فيُطلق
كم رصاصة لا يدري هو شخصياً أين ذهبت! ثم يرتد إلى مكانه فرحاً بما أنجز، وسط
تهليل وتصفيق وتكبير وتصوير من أصحابه المراهقين، هذا الأسلوب الأحمق استفزني بعمق
وأصبحت أُصاب بالغضب كلما رأيت أحد هؤلاء الحمقى يتصرف بهذه الطريقة، أعرف تماماً
أن ثمن الرصاصة البالغ أربعة آلاف ليرة لا يستطيع أحد هؤلاء الفتيان تأمينه فما
بالك بمشط كامل، فهو يُكلفهم كثيراً فلماذا يتم إهدار هذا الرصاص أو هذا المال,
(ثمن عشرين رصاصة هو خمسة وسبعين ألف ليرة، بينما جمعية أحد هؤلاء الفتيان لا
تتجاوز الثمانين ألف ليرة، فكيف سيأكل أو كيف سيُطعم عائلته بقية الأسبوع، هل تكفي
خمسة آلاف ليرة عائلة بأكملها في أسبوع؟) هكذا يتم إهدار هذا الرصاص، هكذا بدون
فائدة وبدون تركيز، هل لأنهم غير مدربين أو غير مجهزين، لست أفهم تحديداً، ولكن
يجب أن يكون هناك قناصة أيضاً في التبانة يستهدفون قناصة الجبل ويستهدفونهم كما
يفعل أولئك، من الواضح أن الجبل أعلى من التبانة وبالتالي فإن التبانة تحت مرأى
منه ويَسهُل على القناصة محاصرة أهالي المنطقة ولكن يجب أن يكون هناك قناصة أيضاً
محترفين يستطيعون أن يُصيبوا بحنكة أولئك المتربصين في الجبل، أكره الحرب ولست مع
أحد منهم لا في التبانة ولا في الجبل فكلاهما يدعي الدفاع عن منطقته ودينه وكلاهما
يدعي التدين وكلاً منهما لا يعرف حتى كيف يُصلي!!!، يتاجرون بالدين كي يلعبوا
ويلهو ويقتلوا بعضهم البعض، رغم غبائهم المستفحل إلا أنني شاهدت حادثة مريعة لن
أنساها ما حييت، فلم أصدق أنه يمكن للبشر أن يكونوا بهذه الوحشية وهذا الإجرام
وبهذا الكفر، كنت برفقة أحد الأقارب في اليوم الثالث من المعركة نقف على البالكون
نشاهد بعض الأغبياء يلعبون بأسلحتهم النارية غالية الثمن القديمة والمهترئة،
وبينما نظرت إلى يميني فوجدت سيارة جيب كبيرة (أعرف صاحبها جيداً فهو من سكان
المنطقة) يركبها مع رجل آخر وقد حاول أن يقطع من شارع إلى شارع بواسطتها لأنه من
المستحيل أن يقطع إنسان هذه الطريق مشياً على الأرجل أو ركضاً وإلا سوف يكون جثة
هامدة بغض النظر عن كونه إنساناً أو حيواناً إمرأة أو رجلاً أو طفلاً أو حتى كلباً
أو قطة، لذلك حاول أن يقطع الطريق إلى الجهة الأخرى راكباً سيارته الغالية، دعس بنزين
وأصدر صوت عالٍ جداً كاد أن يُحرق "الموتير" ثم انطلق بأقصى سرعة
بإتجاهنا ماراً من تحت البالكون وأثناء مروره سمعت صوت قَنصٍ عالٍ جداً أصاب الرجل
في رأسه وهو منطلق بأقصى سرعة فغطت الدماء وجه ولم يعد يرى أمامه فانطلقت السيارة
لوحدها بسرعة هائلة فصرخ أحد المقاتلين "زيحوووووووا بسرعة" حيث كان
يتجمع عدد من المقاتلين في وسط الطريق فهرب الجميع وأكملت السيارة طريقها بسرعة
جنونية وبشكل مستقيم فاصطدمت بشكل قوي جداً بأحد عربات "اللافاجت"
(حاويات القمامة) محوّلةٍ إياها إلى قطعة تشبه العلكة الممضوغة، ثم اصطدمت بسيارة
أخرى آخذة في طريقها قدم أحد الفتيان الواقفين في الطريق ثم أكملت إلى عمود كهرباء
فارتطمت به ثم ارتدت بقوة إلى الخلف ثم انقلبت إلى اليمين وخرج منها دخان، وخرجت
بعض السوائل منها على الطريق، أصبتُ بحالة من الدهشة وأنا أراقب الشارع من أوله
لأخره في محاولة مني لفهم ما يجري، فركض الجميع إلى السيارة وأخرجوا منها السائق
وكان الدم يغطي وجهه ولم يظهر شيء من ملامحه، ووضعوه في سيارة وانطلقوا به بأقصى
سرعة إلى المستشفى غير عابئين بالقناصة الذين منذ برهة أصابوا الرجل في مقتل، ثم
أخرجوا الآخر وكان قد أصيب في قدمه ووضعوه في سيارة أخرى وهربوا به إلى المستشفى،
فأصبت ببعض التشويش، كيف خاطروا بحياتهم وأخذوا الرجلين بنفس الشارع وبنفس الطريق
الذي أصيبا فيه، وكأنهم لم يشاهدوا ما حصل له!!! شيء غريب!، يبدوا لي أحياناً بأن
سكان التبانة لا يأبهون لحياتهم وكأنهم لا يريدونها، المخاطرة عندهم شيء طبيعي،
وكأن الخوف إنتُزع من بين أضلاعهم. كان مشهداً رهيباً، لم أرى شيئاً كهذا من قبل،
كان هذا المشهد في اليوم الثالث أعتقد من المعركة كان يوم الإثنين حيث تعطلت عن
عملي بسبب عدم قدرتي على العبور بسبب ذلك القناص الجبان الذي لم يوفر إمرأةً أو
رجلاً أو فتىً فلقد أباح له دينه المزعوم وهو يزعم بأنه يدافع عن دينه بأن يقتل
أيَّ إنسان أياً كان في أي وقت كان دون رقيب أو حسيب، من الذي أحل لهؤلاء القناصة
بأن يقتلوا البشر بهذه الطريقة وكأنهم قد أُعطوا صك براءة مسبق لقتل كل ما يحلو
لهم، هذا القناص قتل من قتل في تلك الأيام وانتهت المعركة ولم يُحاسب ولم يُجرى
تحقيق، يمكن لأي شخص يفتح معركة ليوم واحد يقتل فيها من يريد ربما جارٌ له يغيظه،
أو ربما زميل في العمل حاول أخذ الوظيفة منه، أو ربما شخص ما سرق حبيبة منه،
فالأمر سهل جداً جداً بل أسهل مما كنت أتصور، فلم يُسئل أي أحد من هؤلاء القتلة
الخارجون عن القانون والكافرون بكل دين،
لم يُسئل أحد منهم عمن قتل وكم كان عدد مَن قتل؟
إنه لشيء مخيف، يشعر الإنسان وكأنه يعيش في غابة
تملاؤها الأسود والضباع والكلاب البرية، لا قانون ولا شريعة ولا حتى دين، أضطررت
بعد تعطُلي عن العمل ليوم كامل أن أخرج من التبانة فالوضع متأزم وقد لا أستطيع
الهرب منها وبالتالي سأخسر وظيفتي، لذلك هربت مع بعض الأقارب عبر مداخل ومخارج
فُتحت في جدران المباني والمصانع والأسواق، أضطررت إلى الهرب والخروج بسبب عملي
ولو أخرجوني منها لغير ذلك ما خرجت، ليس حباً بها، ولكن إنها حيث أسكن حالياً قبل
أن أستقر إن شاء الله في بيتي..... فليكن الله في عون أهالي التبانة فإذا تركوا
مصيرهم بأيدي هؤلاء الصبية المراهقين فعلى التبانة السلام، فسيستبيحها شبيحة الأسد
القابعين في الجبل بشكل رهيب.....
وبإنتظار
المزيد من المعارك الصبيانية القادمة ..... فبالله المستعان.