29‏/11‏/2012

معارك التبانة



معارك التبانة – الجزء الأول

منذ وصولي إلى لبنان حدثت معركتان اثنتان في "باب الحرمان وجبله" كما يسميها أحد الكتاب في أحد المجلات الوطنية، يعني بذلك "باب التبانة وجبل محسن"، المعركة الأولى أمتدت يومان إثنان فقط كنت في حينها (عاطلة عن العمل) وبما أني لا أخاف (كطبيعة جميع اللبنانين) بقيت في باب التبانة لكي أشاهد المعركة، ليس فرحاً وحباً بالإقتتال، ولكن أمضيت جزءاً من طفولتي في منطقة "الزاهرية/ شارع لطيفة" القريب إلى حداً ما من "التبانة"، حيث قيل في حينها أن المعارك لن تصل إلى تلك المنطقة فهي بعيدة عن الاشتباكات، ولكن حرب "أبو عمار" كما يُسميها أهل طرابلس اجتاحت طرابلس بأسرها ليس في التبانة فحسب بل امتدت أيضاً إلى الزاهرية والتل وصولاً إلى الميناء، فلقد عشت تلك الحرب بأكملها وكنت في حينها صغيرة ولدي ذكريات مؤلمة لا تُنسى عن تلك الفترة، ثم هاجرت وعدت بعد 24 عاماً إلى لبنان، لأجد ان الحرب مازالت  بإنتظاري ومازالت مستعرة، أردت هذه المرة أن أرى طبيعة المعارك وكيف أصبحت وهل تغيرت عما سبق؟! لذلك بقيت، أمضيت فترة المعركة وأنا أراقب الأحداث عن كثب، شاهدت "المقاتلين" وهم يتناوبون بالسهر طوال الليل لحماية الشوارع خوفاً من نزول ما يُسمى بـ "شبيحة" الأسد إلى التبانة وإرتكاب جرائمه المشهور بها بحق أبناءها.
في هذه المعركة صُدمت لما رأيت، فكلما نظرت إلى الشارع لكي أشاهد المقاتلين ماذا يفعلون أجد أطفالاً صغاراً تقود المعركة دفاعاً عن مناطقها، نعم أطفال صغار، أكبرهم سناً لم يتجاوز عامه السادس عشر، يحملون قطعة "كلاشين" و"جعبة" لا تحوي أكثر من "مشط" واحد، ومع ذلك فهم سعداء بذلك، ظانين أنهم سيحّمون حيهم بهذا "المشط" اليتيم، يومان من المعركة ولم أشاهد سوى خمسة أو ستة رجال في الحي، ربما أقل من ذلك أيضاً، الباقي كله أطفال، حتى أنهم لا يمتلكون سلاحاً، صعد أحد أبناء  الجيران إلى بيتنا خلال الاشتباكات وقال متحدثاً إلى أمه بأنهم بحاجة إلى رصاص، فلا يوجد في التبانة رصاص، ولا يستطيعون الخروج من التبانة لجلب الرصاص بسبب وجود القناصة الذين حاصروا المنطقة بالكامل فلم يستطع أحد الدخول أو الخروج من التبانة .... هنا بدأت بالابتسام بسخريةً، طِفلةٌ صغار يقودون حرباً دفاعية ولا يملكون السلاح أو بمعنى أدق لا يملكون المال لإمتلاك السلاح، ومع ذلك فهم يَرُدُون على أولائك القناصة القتلة، أسلوب قتالهم مضحك أكثر منه مبكي، لا غرابة أن تصبح الحرب شيئاً مضحك، فإذا أصبحت الحرب كخبزٍ  يومي يعيشه هذا الشعب فلا بد أن تصبح الحرب مضحكة، لماذا هو مضحك؟ لأن أسلوب القتال غير متكافىء على الإطلاق، ولا تجوز المقارنة، فبينما أمطرنا جبل محسن بالإنيرجا طوال الليل (لقد أحصيت مع ساعات الليل الأولى 25 قنبلة أنيرجا سقطت من الجبل على التبانة وبعدها مللت من كثرة العد فتوقفت، إلا أن مغاوير الجبل الشجعان لم يملوا العّد وأستغرقوا الليل بطوله وهم يمطرون باب التبانة التعيس بوابل من الأنيرجا حتى اليوم التالي، أظنهم تجاوزوا المائة أو يزيد، ومع كل أنيرجا تسقط يهتز بنا المبنى إهتزازاً وبفعل أن بيوت التبانة مبنية منذ مائة عام أو يزيد كثيراً لا قليلاً ولم يُجرى لها أي عملية ترميم زيادة على ذلك أنها حضرت ثلاثون عاماً من الحروب والهزات الأرضية والقذائف وصواريخ غراد السورية الشقيقة لا شقق الله لنا غبار في إقتلاع عيني حاكمها، فلذلك كنت أخشى مع كل أنيرجا "تفئع" أن ينهَّد البيت على رؤوسنا، مع العلم أن أهل التبانة وبابها لم يُطلقوا ولا حتى أنيرجا واحدة، ليس إستحياءاً من أهل الجبل وخوفاً عليهم ولكن "العين بصيرة والإيد قصيرة"، فالأنيرجا ثمنها وثمن الهاونات لا يقدر على شراءها إلا حزب الله وبالتالي فهو المموّن الرئيس للجبل، فهم يُطلقون الأنيرجا والهاونات وكأنهم "عم يتسلوا بتفصفص بزر"، فلا بد أن لديهم مخزون كبير منها ليُطلقوا هذا العدد الهائل في يومان فقط.
المضحك بالأمر أيضاً (أعتذر بشدة لأنني أمضيت المعركة بطولها وأنا أضحك "قهراً" لسخافة ما شاهدته في تلك المعركة) نعم المضحك بالأمر أنني شاهدت خمسين شاباً تقريباً يقفون في زقاق المنزل فانحنيت قليلاً إلى الأمام لأرى ما الحدث الجلل الذي قد حصل ليتجمهر كل هؤلاء المغاوير الشجعان المجاهدين في مكان واحد في مثل هذا التوقيت غير المناسب، فإذا بأحدهم قد أحضر "بي سيفن" واحدة فقط وقد تحمل عبء ثمنها على عاتقه الشخصي بعد أن باع سيارته، وهو يتحدث بهذا الأمر بكل فخر أمام الخمسين مُعجب الذين يقفون بقربه، كانوا قد ألتموا عليها وكأنها شيء ثمين يجب رؤيته فقد لا يتكرر مشهد وجودها الفاتن مرة أخرى في حيهم، فثمنها يتجاوز المليون ليرة، فيما أضخم مقاتل بينهم مرتبه الشهري لا يتجاوز المائتي ألف ليرة،  بل إن من يقبض هكذا مرتب في باب التبانة يعتبرونه كتير "زنكيل" ويُشار إليه بالبَنان ... لووول عدنا للضحك من جديد، ما علينا، نعود إلى قصة "البي سيفن" اليتيمة المشوّقة، فما أن أنتهى مقاتلنا الفذ أبو خمسة عشر عاماً من سرد قصة بيعه لسيارته "المحرتئة" و"دبرنا كم مبلغ من هون وهونيك" على حسب قوله حتى بدأ وهو المزهوّ بنفسه لأنه يحمل هذا السلاح الفريد من نوعه والمفقود في شوارع التبانة وبابها، حتى بدأ كل مقاتل (تضحكني كثيراً كلمة مقاتل كلما تذكرت أعمار وأشكال وتصرفات من كانوا يقاتلون) بدأ كل مقاتل منهم بالإسراع إلى أخذ صورة له بجانب هذه "البي سيفن" الرائعة الجمال، أعتقد جميعهم قد أمضوا الساعة الكاملة وهم يتصورون، أحدهم تصوّر وهو يحملها على كتفه والآخر تصور وهو يضعها واقفة أمامه وهو جالس، بينما الآخر تصوّر وهو يُقبلها من فوهتها، لوول، لقد تفننوا بطريقة التصوير، ولكن المضحك المبكي في الأمر أن أحدهم أمسك بها وقد حاول إبراز كل رجوليته في هذه اللقطة لكي تظهر في الصورة وهو يحمل "البي سيفن" وهو مليء بالقوة والغضب ولكن لووول كان يحملها وفوهتها موّجهة إلى الأرض وهو يقول "صورني خليا تطلع الصورة وكأني عم صوب على الجبل" هنا أنبرى أحد أصدقائه قائلاً: "ولاه غشيم هيدي ما بتنحمل هاك بدك توجه فوهتها لفوق ما على الأرض يا طشمة"، لووول حتى وهم يتصوّرون لا يعرفون كيف يستعملوها، كل هذا الهرج والمرج والتصوير وحفل الأوتوغراف والمعارك من فوق رؤوسهم "شغالة"، حتى أنه رغم أنني كنت أستمتع بمشاهدة صبية مراهقين وهم يجعلون الحرب عبارة عن لهو ولعب وتصوير، إلا أنني فجأة ألقيت نظرة سريعة عليهم وفكرت، كيف يتجمعون بهذا العدد الكبير في زقاق واحد في هكذا ظرف؟ ماذا لو نزلت أنيرجا أو هاون في هذا الزقاق؟ سيتمزقون جميعاً، ألا يوجد قائد يوجههم ويُبين لهم خطورة هذا الأمر، بالطبع لا يوجد، فلا يوجد إلا صبية صِغار كل همهم أن يحملوا السلاح ويتباهون به كلٌ أمام منزل حبيبته لعلها تُعجب بشبوبيته الفريدة من نوعها وهو يرتدي آلة القتل الغبية تلك التي لا تُسمن ولا تغني من جوع، ولكن هذا لا يهم فقد تصوّر بها وسوف يضعها على الفايسبوك ويرسل نسخة منها إلى الحبيبة الغالية لكي يزيد إعجابها اللامتناهي بهذا الغباء المستفحل بين مقاتلي المراهقة، المضحك في الأمر أنني ظننت بعد حفل الإستقبال الصاخب الذي حظيت به الست "بي سيفن" طوال ساعة من الزمن ظننت أنهم سوف يقومون بإطلاقها على الجبل (كنت أشاهد قبل مجيئي إلى لبنان صور المقاتلين على الإنترنت والفيسبوك في التبانة وهم يُطلقون البي سفن والهاونات على الجبل فظننت أنهم يُمطرون سكان الجبل بها لأفاجأ عند مجيئي إلى هنا ومشاهدة تلك المعارك الوهمية أُصبت بالتشويش، حتى رأيت ما رأيت، وتأكدت من أنها مجرد صور لمراهقين لا يملكون لا سلاح ولا من يحزنون، فمن يُشاهد تلك الصور على الانترنت والفيسبوك يظن بأن مقاتلي التبانة مدججين بالسلاح بل ومعهم بيسيفينات وهاونات في عصر الصور وأوهامها لتُغير مفهوم عبارة قديمة حيث يجب تصحيحها لتكون "رب صورة أكذب من مئة خبر")، عودة إلى موضوعنا وصاحب البيسيفن المشهور، فإذا بصاحبها المزهّو بنفسه بعد إنتهاء حفل الإستقبال يأخذها و"يضبها" بكل هدوء بداخل حقيبة عسكرية أُعدت خصيصاً لها بكل هدوء وهو خائف عليها من أن تُسرق أو تُنهب أو أو أو...... لووول لا أدري ربما أخذها ليضعها على جدار غرفة من غرف منزله لتبقى هناك طوال الثلاثين عاماً المقبلة، أو حتى يُصاب منزله بطلقة نارية أو قذيفة جبلية تُفجر البيت بما حوى، إنها غالية جداً عليه وعلى جيبته لدرجة أنه "مستخسر أنوا" يُطلقها على الجبل، لووول.....مقاتلين، أليس الوضع مضحك بالفعل.
إنتهت تلك المعركة المضحكة المبكية التي لم استطع فهمها جيداً، فبينما كنت في الغربة أشاهد أخبار لبنان كنت أظن وحسب نشرات الأخبار المخزية تلك على جميع القنوات بلا أستثناء بأن هناك حرباً حقيقية بين رجال في التبانة وبابها ورجال في الجبل، لأفاجأ بأن الوضع جداً مهزلي، رجال في الجبل مدربة يتقدمها عناصر من حزب الله متدربة على القنص بدقة مدججة بالأنيرجا والهاونات والقناصين المحترفين مقابل طِفلةٌ صغار لا تدريب ولا تزويد لا بالمال ولا بالعتاد، يجلس المقاتل في الجبل طوال الليل والنهار على متراسه يُحْضَرْ له الطعام والشراب "لعند خدمته"، ويصل مصروفه إلى باب بيته غير عابيء بمشاكل الحياة، بينما في التبانة يقاتل الفتى وهو يحمل هَمْ الأيام التي تغيّب فيها عن العمل وقبل أن يُطلق رصاصة واحدة على الجبل "بيشيل" هم سعرها خوفاً من أنه لن يستطيع أن يشتري غيرها، هذا عدا عن أنهم يقاتلون وهم جياع، فآخر الليل سمعت عدد منهم وأنا مستلقية على سريري يُعبرون عن مدى جوعهم فهم يحرسون الحي منذ الصباح ولم يأكلوا شيئاً، لقد أشفقت عليهم عندما سمعت كلامهم هذا، رغم رفضي لكل ما يقومون به فتوجهت إلى المطبخ وفتحت الثلاجة وأخرجت منها بعض الأطعمة وأحضرت ربطة خبز وأردت أن أعطيهم إياها، ولكنني أحجمت في اللحظة الأخيرة، فلقد غازلني أحد هؤلاء المجاهدين في الصباح فما يُدريني أن أحدهم لن يُعيد الكرة الآن ويُهينني بمغازلة من هنا وأخرى من هناك في منتصف هذا الليل الهاديء وأنا أحاول مساعدتهم، أو سيعتبر أحد هؤلاء "المجاهدين" أنني معجبة بجماله الآخاذ وخصوصاً أن بارودته "حسب ظنه" زادته جمالاً وفتنة، فأحجمت وغيرت رأي وقلت في نفسي لو كانوا يقاتلون من قلب ورب "متل ما بيقولوا" ما ترددت ثانية، ولكنهم مجرد زعران حاول أحدهم في ذلك اليوم إهانتي ببعض كلام الغزل السخيف أمام أصحابه، مع العلم أن كل واحد منهم "أد أبني" لو رُزقت بولد في غابر الأزمان، لهذا أنا أضحك منذ البداية على هذه المعركة السخيفة التي صوّر فيها الإعلام بأن التبانة بها مقاتلين من القاعدة ومن السلفيين ومن الجهاديين لووول (واحد من الجهاديين غازلني وأنا أقف على البالكون أتفرج على المعركة الجهادية التي ستودي بنا جميعاً إلى الجنة) مهازل هذه الحياة كثيرة ومعارك التبانة والجبل أحدها بالتأكيد.
_____________________

معارك التبانة – الجزء الثاني

المعركة الثانية لم تختلف كثيراً عن سابقتها، إلا أنني كنت أكثر تركيزاً هذه المرة على طريقة قتال بعض فتيان التبانة وكيف يردُون على القناصة المحترفين الموجودين في الجبل، فكان الأمر جداً مضحك أيضاً، فبينما قناصة حزب الله في الجبل يُركزون قَنَاصَاتِهِم على كل شارع وكل ممر وكل زُقاق مانعين أي من سكان هذه المنطقة من المرور، حتى النساء والأطفال يتم رميهم بالرصاص إذا تحركوا، لدرجة أنه قد فُقد الخبز في المدينة، فممنوع أن يمر لا بشر ولا حجر، وبقي السكان طيلة أربعة أيام غير قادرين على تأمين ربطة الخبز بسبب القناصة الجبناء القابعين في الجبل، فبينما هم بالأعلى يمنعون كل مار من المرور كان فتيان التبانة المراهقين يُطلقون النار عشوائياً على الجبل دون تحديد وجهة ودون تحديد بيت أو منزل أو مقاتل فقط تنظر إليه وقف خلف الجدار ورفع بندقيه متهيئاً لأن يصيب شيء ما، فإذا به ينبري بسرعة إلى السكة مبتعداً خطوات قليلة جداً عن جداره الحامي فيُطلق كم رصاصة لا يدري هو شخصياً أين ذهبت! ثم يرتد إلى مكانه فرحاً بما أنجز، وسط تهليل وتصفيق وتكبير وتصوير من أصحابه المراهقين، هذا الأسلوب الأحمق استفزني بعمق وأصبحت أُصاب بالغضب كلما رأيت أحد هؤلاء الحمقى يتصرف بهذه الطريقة، أعرف تماماً أن ثمن الرصاصة البالغ أربعة آلاف ليرة لا يستطيع أحد هؤلاء الفتيان تأمينه فما بالك بمشط كامل، فهو يُكلفهم كثيراً فلماذا يتم إهدار هذا الرصاص أو هذا المال, (ثمن عشرين رصاصة هو خمسة وسبعين ألف ليرة، بينما جمعية أحد هؤلاء الفتيان لا تتجاوز الثمانين ألف ليرة، فكيف سيأكل أو كيف سيُطعم عائلته بقية الأسبوع، هل تكفي خمسة آلاف ليرة عائلة بأكملها في أسبوع؟) هكذا يتم إهدار هذا الرصاص، هكذا بدون فائدة وبدون تركيز، هل لأنهم غير مدربين أو غير مجهزين، لست أفهم تحديداً، ولكن يجب أن يكون هناك قناصة أيضاً في التبانة يستهدفون قناصة الجبل ويستهدفونهم كما يفعل أولئك، من الواضح أن الجبل أعلى من التبانة وبالتالي فإن التبانة تحت مرأى منه ويَسهُل على القناصة محاصرة أهالي المنطقة ولكن يجب أن يكون هناك قناصة أيضاً محترفين يستطيعون أن يُصيبوا بحنكة أولئك المتربصين في الجبل، أكره الحرب ولست مع أحد منهم لا في التبانة ولا في الجبل فكلاهما يدعي الدفاع عن منطقته ودينه وكلاهما يدعي التدين وكلاً منهما لا يعرف حتى كيف يُصلي!!!، يتاجرون بالدين كي يلعبوا ويلهو ويقتلوا بعضهم البعض، رغم غبائهم المستفحل إلا أنني شاهدت حادثة مريعة لن أنساها ما حييت، فلم أصدق أنه يمكن للبشر أن يكونوا بهذه الوحشية وهذا الإجرام وبهذا الكفر، كنت برفقة أحد الأقارب في اليوم الثالث من المعركة نقف على البالكون نشاهد بعض الأغبياء يلعبون بأسلحتهم النارية غالية الثمن القديمة والمهترئة، وبينما نظرت إلى يميني فوجدت سيارة جيب كبيرة (أعرف صاحبها جيداً فهو من سكان المنطقة) يركبها مع رجل آخر وقد حاول أن يقطع من شارع إلى شارع بواسطتها لأنه من المستحيل أن يقطع إنسان هذه الطريق مشياً على الأرجل أو ركضاً وإلا سوف يكون جثة هامدة بغض النظر عن كونه إنساناً أو حيواناً إمرأة أو رجلاً أو طفلاً أو حتى كلباً أو قطة، لذلك حاول أن يقطع الطريق إلى الجهة الأخرى راكباً سيارته الغالية، دعس بنزين وأصدر صوت عالٍ جداً كاد أن يُحرق "الموتير" ثم انطلق بأقصى سرعة بإتجاهنا ماراً من تحت البالكون وأثناء مروره سمعت صوت قَنصٍ عالٍ جداً أصاب الرجل في رأسه وهو منطلق بأقصى سرعة فغطت الدماء وجه ولم يعد يرى أمامه فانطلقت السيارة لوحدها بسرعة هائلة فصرخ أحد المقاتلين "زيحوووووووا بسرعة" حيث كان يتجمع عدد من المقاتلين في وسط الطريق فهرب الجميع وأكملت السيارة طريقها بسرعة جنونية وبشكل مستقيم فاصطدمت بشكل قوي جداً بأحد عربات "اللافاجت" (حاويات القمامة) محوّلةٍ إياها إلى قطعة تشبه العلكة الممضوغة، ثم اصطدمت بسيارة أخرى آخذة في طريقها قدم أحد الفتيان الواقفين في الطريق ثم أكملت إلى عمود كهرباء فارتطمت به ثم ارتدت بقوة إلى الخلف ثم انقلبت إلى اليمين وخرج منها دخان، وخرجت بعض السوائل منها على الطريق، أصبتُ بحالة من الدهشة وأنا أراقب الشارع من أوله لأخره في محاولة مني لفهم ما يجري، فركض الجميع إلى السيارة وأخرجوا منها السائق وكان الدم يغطي وجهه ولم يظهر شيء من ملامحه، ووضعوه في سيارة وانطلقوا به بأقصى سرعة إلى المستشفى غير عابئين بالقناصة الذين منذ برهة أصابوا الرجل في مقتل، ثم أخرجوا الآخر وكان قد أصيب في قدمه ووضعوه في سيارة أخرى وهربوا به إلى المستشفى، فأصبت ببعض التشويش، كيف خاطروا بحياتهم وأخذوا الرجلين بنفس الشارع وبنفس الطريق الذي أصيبا فيه، وكأنهم لم يشاهدوا ما حصل له!!! شيء غريب!، يبدوا لي أحياناً بأن سكان التبانة لا يأبهون لحياتهم وكأنهم لا يريدونها، المخاطرة عندهم شيء طبيعي، وكأن الخوف إنتُزع من بين أضلاعهم. كان مشهداً رهيباً، لم أرى شيئاً كهذا من قبل، كان هذا المشهد في اليوم الثالث أعتقد من المعركة كان يوم الإثنين حيث تعطلت عن عملي بسبب عدم قدرتي على العبور بسبب ذلك القناص الجبان الذي لم يوفر إمرأةً أو رجلاً أو فتىً فلقد أباح له دينه المزعوم وهو يزعم بأنه يدافع عن دينه بأن يقتل أيَّ إنسان أياً كان في أي وقت كان دون رقيب أو حسيب، من الذي أحل لهؤلاء القناصة بأن يقتلوا البشر بهذه الطريقة وكأنهم قد أُعطوا صك براءة مسبق لقتل كل ما يحلو لهم، هذا القناص قتل من قتل في تلك الأيام وانتهت المعركة ولم يُحاسب ولم يُجرى تحقيق، يمكن لأي شخص يفتح معركة ليوم واحد يقتل فيها من يريد ربما جارٌ له يغيظه، أو ربما زميل في العمل حاول أخذ الوظيفة منه، أو ربما شخص ما سرق حبيبة منه، فالأمر سهل جداً جداً بل أسهل مما كنت أتصور، فلم يُسئل أي أحد من هؤلاء القتلة الخارجون عن القانون والكافرون بكل دين،  لم يُسئل أحد منهم عمن قتل وكم كان عدد مَن قتل؟
إنه لشيء مخيف، يشعر الإنسان وكأنه يعيش في غابة تملاؤها الأسود والضباع والكلاب البرية، لا قانون ولا شريعة ولا حتى دين، أضطررت بعد تعطُلي عن العمل ليوم كامل أن أخرج من التبانة فالوضع متأزم وقد لا أستطيع الهرب منها وبالتالي سأخسر وظيفتي، لذلك هربت مع بعض الأقارب عبر مداخل ومخارج فُتحت في جدران المباني والمصانع والأسواق، أضطررت إلى الهرب والخروج بسبب عملي ولو أخرجوني منها لغير ذلك ما خرجت، ليس حباً بها، ولكن إنها حيث أسكن حالياً قبل أن أستقر إن شاء الله في بيتي..... فليكن الله في عون أهالي التبانة فإذا تركوا مصيرهم بأيدي هؤلاء الصبية المراهقين فعلى التبانة السلام، فسيستبيحها شبيحة الأسد القابعين في الجبل بشكل رهيب.....

 وبإنتظار المزيد من المعارك الصبيانية القادمة ..... فبالله المستعان.

خطبة يوم الجمعة في الجامع الناصري



 
2.3.2012
(هكذا طبيعة الكون خلق الله للرجل الزكاء والقوة والحكمة, والطيش والحنان للمرأة ليتوازن الكون).

نزلت ضيفة عند أقاربي في باب التبانة, وتعودت كل يوم جمعة أن أجلس على الشرفة واستمع لخطبة الجمعة في الجامع الناصري, مرت شهور عديدة كانت خلالها خطبة يوم الجمعة دائماً عما يجري في سوريا حتى مللنا الاستماع إلى خطبة الجمعة لما فيها من تكرار وتكرار وتكرار وكأن العالم توقف والدين انتهى فقط عن الأحداث الدائرة في تلك البلد, إلى أن قرر شيخنا الجليل بعد أن شعر بتململ بعض المؤمنين أن يغير خطبة يوم الجمعة هذا الأسبوع لخلق بعض السوسبانس لزبائنه المترددين على الجامع (نعم زبائن, هكذا أصبح شيوخنا الأفاضل يتعاملون مع بعض المؤمنين الذين ينتظرون هذا اليوم لكي يتعبدون الله قليلاً, ونعتذر عن هذا الوصف لأننا نكتب هذه السطور ونحن في حالة غضب شديدة ناتجة عن إهانة وُجهت لنا ليس من رجل سفيه أو جاهل أو متخلف وما كان ليرف لنا جفن فلا يمكن مجادلة جاهل, لا بل الطامة الكبرى أتت إلينا من أعلى هرم في الدين والذي يُفترض به أنه أعلم خلق الله بدينه وأنه أكثر خلق الله اهتمام باختيار الكلمات والمصطلحات التي تقرب المؤمنين لدينهم فلو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك, فوجب عليه أن يختار أفضل الكلمات وأكثرها احتراماً للمرأة عموماً فكيف إذا ما كانت كلماته موجهة إلى المرأة المسلمة).
كان موضوع خطبة الجمعة لهذا الأسبوع المرأة, ولكم أن تتخيلوا مدى الكلمات التي يمكن أن توصف بها المرأة في خطبة الجمعة لجذبها إلى دينها عن طريق الطلب منها أن تتفقه في هذا الدين وترجع إلى دينها وتتمسك به, هنا يطلب منها ذلك مخاطباً عقلها ووعيها وذكائها بأن تتفكر, ثم يصفها بعد ذلك بأنها خـُلقت طائشة, لا أدري, أصابني بعض الارتباك عندما سمعت خطبة شيخنا الجليل هذا فكيف تم خلق المرأة طائشة غبية لا تعقل وأنت معترف بذلك ثم تطلب منها أن تتفكر وتتفقه, لست أدري, ربما أصاب أُذنيّ بعض الوهن في غفلة مني.
هذا بعض ما جاء في خطبة الجمعة لهذا الأسبوع في جامع الناصري: (هكذا طبيعة الكون خلق الله للرجل الزكاء والقوة والحكمة, والطيش والحنان للمرأة ليتوازن الكون).
هنا عندما سمعت هذه الجملة تركت مكاني ودخلت وأغلقت باب الشرفة والنافذة وأشعلت التلفاز وقضيت بعض وقتي عليه, فلم تعد لي رغبة بالاستماع لخطبة كل الهدف منها هو زرع فكرة معينة في صفوف زبائن هذا الجامع بان نسائهم جميعاً: أمهاتهم وزوجاتهم وبناتهم وأخواتهم وجميع قريباتهم رغم ما يـُعانينه من آلام الفقر وآلام الهجر وآلام خيانة الزوج وفحشه وفجوره وهن جالسات في بيوتهن يربين أولادهن  رغم آلام الغدر والخيانة وآلام تعنيفهن وآلام تجثم على ظهورهن من التفكير كيف سيعلمن ويطعمن أولادهن ويعانين ما يعانينه فرغم كل ذلك فهن طائشات, وهناك من يـُحرض أزواجهن وأولادهن عليهن.
وبعد ذلك يتساءلون ويتحيرون ويتعجبون ويتفكرون عن سبب ابتعاد بعض النساء عن الدين وتململها منه, فالرجل في مفهوم وعقيدة هذا النوع من الشيوخ إنسان كامل وحكيم وعاقل وذكي حتى لو ارتكب المجازر وحتى لو ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن, وحتى ولو كان يرتكب الحماقات الواحدة تلوى الأخرى وعلى مرأى ومسمع من الجميع, فهو رغم ذلك أذكى وأكثر حكمة وقوة من المرأة الطائشة حتى ولو كانت ناسكة متعبدة زاهدة بالأرض وما عليها, حتى ولو كانت في أعلى مراتب الذكاء, فالمرأة في مفهوم هذا النوع من الشيوخ غبية حمقاء بلهاء, ثم بعد إهانة المرأة وتحقيرها باسم الدين ويزعمون أن هذا الدين هو مُنزل من عند الله وهذا شرع الله, ثم عندما تضجر من هذا الدين الذي اخترعوه وأهانوها باسمه وابتعدت عنه وخصوصاً إذا كانت لا تدرك حقيقة الدين الصحيح الذي كرمها عقلاً وقلباً وجسداً تراها ابتعدت عن دينها ونبذته, ثم يتساءلون شيوخنا الأفاضل ذوي العقول الفذة ما بها قليلة العقل هذه, لا وبل يتحدثون إليها بازدراء وتعنيف وتهذيب وكأنها طفلة صغيرة طائشة حتى ولو بلغت الستين, نعم أيها الشيخ الفاضل لا فضل الله على وصفك, نحن النساء طائشات ومن كان طائشاً لا عقل ولا فهم له لا يمكنك محاسبته أو المطالبة له بالإقتداء بالدين, فماذا أنت وبقية شيوخنا الأفاضل ممن يقتدون بهذه الأفكار التي ما أنزل بها الله من سلطان فاعلون, اتركوا الطائشون وحالهم, دعونا وشأننا, حلو عن هذه المرأة الطائشة ودعوها وشأنها.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ), الكيد حسب لغة العرب هو الدهاء, والدهاء حسب لغة العرب أيضاً هو أعلى مراتب الذكاء, الله يخبرهم بذلك في قرآنه الكريم وشيخنا الكريم في جامعنا الناصري يستهزأ بها ويقول بأن توازن الكون يكون بطيشها وحنانها, نعم , لك ذلك, إن كان ذلك يُشعرك ببعض الذكاء والقوة أمام جمع كبير من الرجال فلك ذلك, ولكن تذكر بأنك مسؤول عن هذا الجمع الكبير يوم القيامة أمام الله, هذه الآية كثيراً ما أحب أن أسمعها من أفواه بعض الرجال الذين لم يـُنعم الله عليهم يوما ً بأن فتحوا قرأنه الكريم أو تفقهوا به, فهم يظنون أن هذه إهانة للمرأة ودائماً ما يحبون تذكيرها بهذه الآية الكريمة, ولا يعرفون التفسير اللغوي والشرعي لها, ويكررونها مراراً وتكراراً, فوالله لو عرفوا معناها ما تجرئوا على لفظها, نعم نسيت, فهم أذكى وأكثر حكمة, يمكنهم أن يـُفسروا كلام الله حسب ذكائهم دون الحاجة للرجوع لكتب الفقه واللغة, ربما أخطأت أنا ههنا, لا بأس.
منذ يومين تحدث لي أحد الأقرباء بعد أن أفتعل لي مشكلة مع إحدى القريبات كان هو مسببها, وبعد أن تم حل المشكلة وتبينت تفاصيلها قال لي بأن أغلب مشاكل العالم سببها النساء, فضحكت نعم نحن سبب مشاكل هذه الأرض, نحن من قام باختراع القنبلة النووية وتسببنا بموت ملايين البشر, نحن من افتعل الحرب العالمية الأولى والثانية وتسببنا بمقتل خمسين مليون كائن بشري وقطعنا الحرث والنسل, وتسببنا بكوارث يندى لها جبين البشرية, وسنكون نحن من يـُفجر الحرب العالمية الكونية الثالثة القادمة بإذن الله, لووول, ونحن من أقام الثورات العربية المزعومة وتكبدنا عناء تدمير البشر والحجر, ونحن من قمنا باغتصاب أنفسنا بشكل جماعي في هذه الثورات التي قامت لتُزيل طاغية من أجل حقوق سياسية فكانت أولى ضحيتها اغتصاب جماعي للنساء والتنكيل بهن, فوالله خير لهذه الأمة أن يجثم على صدرها طاغية وسفاح كالسفيه القابع في دمشق مائة عام خير عند الله من أن يـُهتك عرض امرأة واحدة مسلمة, لأن يـُهدم جدار الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من أن يـُسفك دم مسلم واحد فكيف إذا كانت إمرأة يـُمثل بجسدها بأبشع تمثيل وتـُقتل, لا أدري, ربما اغتـُصبت بسبب طيشها, إذن فالحق عليها, فمن أغتصبها أكثر ذكاء وحكمة منها, خرجها بتستاهل هذا جزاء الله لها لأنها طائشة.......... نعم نحن من قمنا بإسقاط جميع الحكومات في لبنان ونحن من قام باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ونحن من قام بحرب تموز ونحن من قام بحرب نهر البارد ونحن من قام بسبعة أيار ونحن ونحن ونحن, ونحن من قام بثورة الآرز: نعم ربما بهذه الثورة العظيمة نحن مذنبات حتى النخاع فقد خرجنا بالملايين وفاقت أعدادنا أعداد الرجال نعم في هذه الثورة العظيمة كان لنا الشرف بأن نكون طائشات متهورات فاقدات للعقول التي أساساً وحسب قول شيخنا الكريم في جامعنا الناصري لم نكن نملك العقل أساساً, سلمت وسلم لسانك أيها الشيخ لما تقوم بتلقيمه لجيل كبير من الشباب الذين يذهبون للمساجد طمعاً للتزود ببعض الدين, فعلى ماذا يحصلون وعلى ماذا يتفقهون وعلى ماذا يتشربون وماذا يـُزرع في رؤوسهم؟ الجواب هو: هكذا طبيعة الكون خلق الله للرجل الذكاء والقوة والحكمة, والطيش والحنان للمرأة ليتوازن الكون.
يا له من توازن, حبذا يا شيخنا الجليل لو تـُعلمون الناس شؤون دينهم كما أنزلها الله تعالى وكما وردت على نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه وكفوا عن إتحافنا بآرائكم الذكورية الشخصية التي ما أنزل الله بها من سلطان والتي جلبت الكوارث على مجتمعاتنا العربية وفرقت شملها وتناثرت أشلائها وتفشى بها الحقد والكراهية ضد الدين, هذا عدا عن تكريه النساء وخصوصاً ممن لم يـُنعم الله عليها التفقه بدينها الحقيقي ولا تعرف مكانتها الحقيقية في الدين وتستمتع لهكذا خزعبلات وتظن بنفسها أسوء الظنون, نعم هذا النوع من شيوخنا الأفاضل سيحاسب حساباً عسيراً عما يخرج من فمه من تشويه لهذا الدين وتحقير أهم عماد ومدماك له ألا وهو المرأة فإذا لم تحترم المرأة دينها الذي حسب هؤلاء يـُهينها ويـُحقرها فمن سيقوم بتعليم هذا الدين للنشأ, هل كل هذه البشرية بمن فيهم الرجال الأكثر ذكاء وحكمة هم طائشون لأن من قامت بتربيتهم هي المرأة الطائشة؟ لا أدري, هل يستمع هؤلاء الشيوخ لكلامهم الذين يقولونه ويوجهونه للمتلقين؟ لست أدري  ....ولكن كل ما أفهمه هو أن هذا النوع من الشيوخ الأفاضل دائماً ما يعتقد في عقله الباطني والظاهري بأن كل خير يصيبه في هذه الحياة فهو من نفسه وكل شر يصيبه في هذه الحياة فهو من المرأة.
شكراً شيخنا الجليل في جامعنا الناصري, جزاك الله خيراً, وجعله في ميزان حسناتك.

أول تجربة عزاء....... كانت قاسية جداً




بناءاً على دعوة من ابنة خالتي لبيتها لها وخصوصاً أن العائلة كانت مجتمعة بالكامل هناك, وأثناء الزيارة تحدثت اثنان من بنات خالتي عن قربهما من بعضهما وكيف أنهما يسكنان مقابل بعضهما ويسهران معاً طوال الليل ويذهبان إلى السوق سوياً ويركبان سيارة التاكسي سوياً وطول عمرهما سوياً حتى أن ابناء كل واحدة منهما متعلق بخالته كثيراً, وأثناء هذا السرد وأنا استمع لهما بانتباه شديد عصني قلبي وتذكرت أختي فأنا وهي قريبتان جداً من بعضنا وكنا نمضي وقت طويل مع بعضنا, تذكرت أختي وحاولت إحدى الدموع أن تهرب من إحدى عيناي رغماً عني ولكني منعتها بالقوة, ولكنها كانت أمهر مني فنزلت رغماً عني فدهش الجميع وتأثر وحاولوا بقلب طيب تخفيف حزني فأقترب الجميع وحاولوا سرد النكت والقصص المضحكة التي حدثت معهم في محاولة لتخفيف حزني, ثم حضر جمال, شاب يكاد يكون بدراً هبط من السماء بعد تململ إلى الأرض ليبحث عن مكان يري فيه جماله الآخاذ, جلس بقربي وأمسك بالدربكة وبدأ يدربك بقوة مع ابن خالته, فنسيت حزني وبدأت ابتسم لهذه الكتلة من الجمال التي جلست بقربي محاولة أن تنسيني حزني, وأمام هذا الجمال البريء نسيت حزني وبدأت ابتسم ونهض الجميع ورقص وضحك ولعب وانتهى اليوم وعاد كل منا إلى بيته.

التكنولوجية الحديثة ما أسرعها بإيصال الأخبار السيئة, بعد تلك الزيارة بأسبوع واحد فقط وصلتني ماسيج عبر الموبايل تحكي عن إحتراق جمال بمادة التنر, إحترق بالكامل وهو الآن بالمستشفى, شعرت بالأسف الشديد وبالأخص أنه ابن قريبة لي تعز علي بشكل خاص, ورغم آسفي على احتراقه قلت لخالتي الحمد الله أنني لا أعرف ابنها وإلا كنت تأثرت كثيراً بالموضوع, فقالت لي : وكيف لا تعرفيه؟ لقد كان عم يدربكلك على الدربكة عندما كنتي حزينة وحاول إضحاكك, فقلت لها ولكن ذلك كان ابن فلانة, فقالت : لا, هذا جمال ابن فلانة, صُعقت للخبر, فأنا في لبنان منذ ستة أشهر فقط ومازلت لم احفظ الوجوه والأسماء, شعرت بحزن شديد, وقلت في نفسي, أمعقول لهذا الجمال أن يحترق هكذا؟ فور سماعي لهذا الخبر نزلت بسرعة وبدون تفكير إلى الأشرفية لكي أقوم بزيارته, أريد أن أراه واطمئن عليه, وصلت إلى المستشفى, ودخلت قسم الحروق, فنظرت فوجدت ابنة خالتي جالسة بالقرب من أحد الآسرة وبقربها جسد ملتف بالأبيض من شعره حتى قدميه وأنبوب التنفس يخترق فمه وجانبيه, خرجت قريبتي وسلمت علينا وبدا عليها القوة والصبر دخل الجميع وألقى نظرة على جمال وهو غائب عن الوعي, ولكني بقيت بالخارج فلم أرد أن أنقل اليه أي فيروس أو ميكروب ووقفت على الزجاج ونظرت إليه وبدا وجهه مسوداً من الحرق, شعرت بالألم, وقلت في نفسي لماذا يا ربي؟ من أسبوع فقط كان يحاول إضحاكي, لماذا أنت قاسي هكذا يا ربي, لماذا جمال؟ رفضت كل مستشفيات طرابلس إستقبال جمال, فنسبة بقائه على قيد الحياة لا تتجاوز العشرة بالمائة, قبلته إحدى مستشفيات الأشرفية وهي المستشفى الوحيدة بلبنان المتخصصة بالحروق, ورغم قبولهم له إلا ان الطبيب أخبر العائلة بأن لا أمل له بالشفاء, ولكن الأهل دائماً يتعلقون بأي شيء, بعدها بيومين, تلقيت ماسيج آخر إنها التكنولوجية من جديد تنقل أسوء الأخبار, لقد توفي جمال, شعرت بالألم والحزن الشديدين وبنفس اليوم صباحاً ذهبت العائلة بالكامل للعزاء, وكان أول أيام العزاء, دخلت المنزل وكان الصالون يعج بالناس المتشحة بالسواد فشعرت بشيء من الحزن قد أثقل صدري, سلمت على خالات جمال وهن بنات خالتي, وجلست انظر إلى الوجوه الحزينة, بدا كل شيء حزين جداً, كان صوت القرآن الكريم يدوي في أرجاء المكان, والوجوه حزينة وتبكي, البعض يندب والبعض يبكي والبعض يدعو لأمه بأن يلهمها الله الصبر والقوة ولقد كانت كذلك, ولكني كنت في عالم آخر, طوال الوقت وأنا أتذكر قبلها بأسبوع واحد فقط نفس الوجوه ونفس الأشخاص كنا نرقص ونضحك ونلعب وكان جمال معنا, والآن جميعنا في حالة حزن شديد ولكن جمال ليس معنا, بعد ساعتين حضرت ابنة خالتي من الأشرفية وجلست في الصالون وبدت جداً متماسكة وكلمة الحمد لله لا تفارق شفاهها, الكل أقترب منها معزياً ومواسياً ولكني لم أستطع الإقتراب منها, بل شعرت بالخوف الشديد وأنا انظر إليها محدثة نفسي: كيف تستطيع تحمل هكذا أمر؟ نظرت إليها وودت لو أستطعت ان أضمها قليلاً لعلها تبكي قليلاً وتفجر الحزن الذي بداخلها, ولكن كان إيمانها بالله قوي جداً, لم تصرخ ولم تندب ابنها ولم تقترف أي شيء ضد الشرع, لقد كانت مثال للأم المسلمة الهادئة والراضية بقضاء الله, بعدها بقليل أحضروا سرير ووضعوه أمامها مستقبلاً القبلة وقد غطي بالكامل بالأبيض ثم دخل عدة رجال يحملون جمال على كتفهم, عرفت بعض الرجال فهم أقربائي, وما أن شاهدت الجثة حتى شعرت بألم شديد في بطني, وبدأت بالقول: لا إله إلا الله إنا لله وإنا إليه لراجعون, كان منظر الجثة مهيباً جداً وله رهبة شديدة وقعها مؤلم بالنفس, وأردت البكاء ولكني لم أستطع, وضعت الجثة على السرير وأقترب الجميع ليرى عملية لف الجسد بالكفن, ولكني لم أرد أن أرى ذلك, لا اريد أن ارى من حاول ان يرسم الضحكة على وجهي وهو يلف بالأكفان, هجم الجميع إلى الصالة ووقف البعض على رؤوس أقدامهم ليروا الكفن وهو يلف جسده, يريدون أن يتفرجوا, يا له من منظر, من يستطيع تحمله, أبتعدت إلى الوراء ونظرت إلى الأرض, أردت أن أبكي ولكني لم أستطع, لقد كنت شبه مصدومة ولكني لم انتبه لنفسي, وما أن بدأ تكفينه حتى بدأ الصراخ والعويل يعلو من أقرباء جمال, تضايقت كثيراً من عملية الندب هذه, ثم سمعت صوت والده يقول: بدي جوزك يا بابا بدي شوف أولادك يا بابا, وأنا أعرف والده جيداً, رجل طيب القلب كثيراً, وما أن سمعت صوته حتى شعرت بالحزن الشديد, ومازلت اريد البكاء ولكني لم أستطع, تراجعت الى الخلف وجلست على الكرسي وأنا شاردة انظر إلى الأرض وأنا اسمع صراخ والده وعماته, وبدأت أفكر فجأة في أهلي, شعرت فجأة بالحنين الى أهلي, وتمنيت لو كنت بينهم الآن وفي ذات اللحظة, ونتيجة للصراخ والعويل فوق جثة جمال, لم يستطيعوا تكفينه بالكامل فأخذوه مرة أخرى حملاً على الأكتاف وذهبوا به الى الجامع ليتم تكفينه بعيداً عن الصراخ والعويل, وكل هذا وأمه صابرة ولا يفارق لسانها كلمة الحمد لله, ثم خرج الرجال وهم يحملون الجثة مرة أخرى, فنظرت إلى الجثة مرة أخرى وهي تعبر من أمام عينيّ, فشعرت بشيء ثقيل فوق صدري ثم قلت : لا إله إلا الله, سكن الجميع, فجأة, وبدأت انظر حولي لأرى الحزن والبكاء بكل ركن من أركان البيت, ثم أغمي على إحدى القريبات, فوقفت ونظرت حولي وبدأت أفكر كثيراً بعائلتي, إذا حدث لا سمح الله مكروه لأحد منهم كيف سيتصرفون؟ لا بد أنهم سيحتاجون لأن أكون بقربهم, لقد كان الإرباك واضح على أهل جمال, فبدأت بتخيل عائلتي وهي في وضع مشابه لهذا, لم أعد أفكر بجمال أو بالعزاء, بل كل تفكيري أصبح منصباً على عائلتي, نوبة من الحزن واليأس أصابتني, أردت البكاء والبكاء بشدة, ولكني لم أستطع أيضاً, وقفت بالقرب من الصالون وبدأت أنظر الى ابنة خالتي في محاولة مني للإطمئنان عليها فلقد شعرت بالخوف الشديد تجاهها, ولكنها كانت متماسكة أكثر من الجميع, نيالها على هذا الصبر الذي أمدها الله به, وقفت على الباب وكنت شاردة بالأرض فإذا بإحدى القريبات تقترب مني وتسند رأسها على كتفي وتبدأ بالبكاء, فنظرت إليها وقلت لها بداخلي: أرجوكي أنا منهارة كثيراً من الداخل, أرجوكي دعيني لوحدي, ولكنها لم تسمع صدى نفسي وأجهشت بالبكاء على كتفي فما كان مني إلا أن ربت على كتفيها مواسية لها, وكنت كل شوي أقترب من الصالون وأنظر إلى أم جمال لأرى هل مازالت صامدة, ثم أعود وأجلس بعيداً عن الناس, شعرت بالضيق الشديد وأردت المغادرة بعد يوم طويل قضيته بالعزاء, وقبل مغادرتي بقليل نظرت إلى جانبي الأيمن لأجد والد جمال واقف على الباب بجانبي فنظرت اليه متفحصة ملامحه وأنا مندهشة فرفع يده لي محيياً وهو يبتسم ابتسامة حزينة جداً, فقلت في نفسي: يا الله, هذا الأب المفجوع بابنه خصص لي جزء من وقته الحزين ليُحيني, فوقفت وذهبت باتجاهه وسلمت عليه وعزيته وكان واقفاً على الحائط كمن خسر الدنيا بمن فيها, لم أستطع تحمل المزيد, ذهبت إلى أم جمال وعزيتها ثم خرجت من المنزل وعدت إلى البيت مع أذان المغرب, وطوال الطريق وأنا ساكتة, فحدثتني إحدى خالاتي ولكني كنت أفكر بأمي بشدة, فلاحظت علي خالتي حزني الشديد, وقالت: هيدي أول مرة بتحضري عزا, فقلت لها: نعم, ثم بكيت, حاول الجميع تطيب خاطري ولكني قلت لهم, ماذا لو حدث شيء ما لعائلتي هناك بالغربة, ماذا سأفعل؟ وكيف سيتصرفون من دوني؟ حاول الجميع تهدئتي, وتداركت نفسي, ثم عدت إلى البيت وظللت طوال الثلاثة أيام التالية وانا في حالة صمت مطبق, لم أستطع أن اتفوه بكلمة, لقد كنت تحت تأثير الصدمة, ولم تغب عائلتي عن بالي أبداً, ذهب الجميع ثاني وثالث أيام العزاء ومازالوا يذهبون وسيذهبون طوال هذا الأسبوع, ولكني لم أذهب إلا أول يوم العزاء, وقد وعدت نفسي بأن لا أذهب إلى أي عزاء بعد ذلك, لقد كان هذا اليوم اليتيم عاطفي جداً وقاسي جداً, لم أرد أن أمر بنفس التجربة مرة أخرى, مر الأسبوع بالكامل كئيب وحزين, وشعرت باليأس الشديد, لقد كنت راغبة بالذهاب للإطمئنان على ابنة خالتي ولكن نفسيتي لم تكن جاهزة لزيارة ذلك المنزل مرة أخرى, هذا شعوري ولم أعرف جمال إلا من أسبوع فقط, وأنا الغريبة عنه كلياً, فكيف سيكون شعور أمه وأباه وهما من ربياه كل شبر بندر كما يقال, لماذا جمال بالذات؟ ذلك أمر رب العالمين.

عائلتي الصغيرة كم أنا مشتاقة إليكم, اشتياق كبير, ابحث عن وجوهكم في كل مكان, على الأرصفة, في الطرقات, على زجاج السيارات, في كل مكان, لقد فتحت هذه الحادثة عيناي على أمور لم أكن أفكر بها أو أعرها أهتمام, لقد شعرت بقربكم من قلبي أكثر فأكثر, لأول مرة منذ قدومي إلى لبنان أشعر بالوحدة الشديدة والحزن العميق, ولأول مرة أشعر بحاجة إلى أن أكون بقربكم, لقد شعرت بالضعف الشديد, والوحدة والإكتئاب واليأس, الحمد الله على كل شيء, لعل الله يجعل لقاءنا قريب جداً.......أحبكم حتى آخر يوم في حياتي.