بناءاً على دعوة من ابنة خالتي لبيتها لها وخصوصاً أن
العائلة كانت مجتمعة بالكامل هناك, وأثناء الزيارة تحدثت اثنان من بنات خالتي عن
قربهما من بعضهما وكيف أنهما يسكنان مقابل بعضهما ويسهران معاً طوال الليل ويذهبان إلى السوق سوياً ويركبان سيارة التاكسي سوياً
وطول عمرهما سوياً حتى أن ابناء كل واحدة منهما متعلق بخالته كثيراً, وأثناء هذا
السرد وأنا استمع لهما بانتباه شديد عصني قلبي وتذكرت أختي فأنا وهي قريبتان جداً
من بعضنا وكنا نمضي وقت طويل مع بعضنا, تذكرت أختي وحاولت إحدى الدموع أن تهرب من
إحدى عيناي رغماً عني ولكني منعتها بالقوة, ولكنها كانت أمهر مني فنزلت رغماً عني
فدهش الجميع وتأثر وحاولوا بقلب طيب تخفيف حزني فأقترب الجميع وحاولوا سرد النكت
والقصص المضحكة التي حدثت معهم في محاولة لتخفيف حزني, ثم حضر جمال, شاب يكاد يكون
بدراً هبط من السماء بعد تململ إلى الأرض ليبحث عن مكان يري فيه جماله الآخاذ, جلس
بقربي وأمسك بالدربكة وبدأ يدربك بقوة مع ابن خالته, فنسيت حزني وبدأت ابتسم لهذه
الكتلة من الجمال التي جلست بقربي محاولة أن تنسيني حزني, وأمام هذا الجمال البريء
نسيت حزني وبدأت ابتسم ونهض الجميع ورقص وضحك ولعب وانتهى اليوم وعاد كل منا إلى
بيته.
التكنولوجية الحديثة ما أسرعها بإيصال الأخبار السيئة, بعد تلك الزيارة بأسبوع واحد فقط وصلتني ماسيج عبر الموبايل تحكي عن إحتراق جمال بمادة التنر, إحترق بالكامل وهو الآن بالمستشفى, شعرت بالأسف الشديد وبالأخص أنه ابن قريبة لي تعز علي بشكل خاص, ورغم آسفي على احتراقه قلت لخالتي الحمد الله أنني لا أعرف ابنها وإلا كنت تأثرت كثيراً بالموضوع, فقالت لي : وكيف لا تعرفيه؟ لقد كان عم يدربكلك على الدربكة عندما كنتي حزينة وحاول إضحاكك, فقلت لها ولكن ذلك كان ابن فلانة, فقالت : لا, هذا جمال ابن فلانة, صُعقت للخبر, فأنا في لبنان منذ ستة أشهر فقط ومازلت لم احفظ الوجوه والأسماء, شعرت بحزن شديد, وقلت في نفسي, أمعقول لهذا الجمال أن يحترق هكذا؟ فور سماعي لهذا الخبر نزلت بسرعة وبدون تفكير إلى الأشرفية لكي أقوم بزيارته, أريد أن أراه واطمئن عليه, وصلت إلى المستشفى, ودخلت قسم الحروق, فنظرت فوجدت ابنة خالتي جالسة بالقرب من أحد الآسرة وبقربها جسد ملتف بالأبيض من شعره حتى قدميه وأنبوب التنفس يخترق فمه وجانبيه, خرجت قريبتي وسلمت علينا وبدا عليها القوة والصبر دخل الجميع وألقى نظرة على جمال وهو غائب عن الوعي, ولكني بقيت بالخارج فلم أرد أن أنقل اليه أي فيروس أو ميكروب ووقفت على الزجاج ونظرت إليه وبدا وجهه مسوداً من الحرق, شعرت بالألم, وقلت في نفسي لماذا يا ربي؟ من أسبوع فقط كان يحاول إضحاكي, لماذا أنت قاسي هكذا يا ربي, لماذا جمال؟ رفضت كل مستشفيات طرابلس إستقبال جمال, فنسبة بقائه على قيد الحياة لا تتجاوز العشرة بالمائة, قبلته إحدى مستشفيات الأشرفية وهي المستشفى الوحيدة بلبنان المتخصصة بالحروق, ورغم قبولهم له إلا ان الطبيب أخبر العائلة بأن لا أمل له بالشفاء, ولكن الأهل دائماً يتعلقون بأي شيء, بعدها بيومين, تلقيت ماسيج آخر إنها التكنولوجية من جديد تنقل أسوء الأخبار, لقد توفي جمال, شعرت بالألم والحزن الشديدين وبنفس اليوم صباحاً ذهبت العائلة بالكامل للعزاء, وكان أول أيام العزاء, دخلت المنزل وكان الصالون يعج بالناس المتشحة بالسواد فشعرت بشيء من الحزن قد أثقل صدري, سلمت على خالات جمال وهن بنات خالتي, وجلست انظر إلى الوجوه الحزينة, بدا كل شيء حزين جداً, كان صوت القرآن الكريم يدوي في أرجاء المكان, والوجوه حزينة وتبكي, البعض يندب والبعض يبكي والبعض يدعو لأمه بأن يلهمها الله الصبر والقوة ولقد كانت كذلك, ولكني كنت في عالم آخر, طوال الوقت وأنا أتذكر قبلها بأسبوع واحد فقط نفس الوجوه ونفس الأشخاص كنا نرقص ونضحك ونلعب وكان جمال معنا, والآن جميعنا في حالة حزن شديد ولكن جمال ليس معنا, بعد ساعتين حضرت ابنة خالتي من الأشرفية وجلست في الصالون وبدت جداً متماسكة وكلمة الحمد لله لا تفارق شفاهها, الكل أقترب منها معزياً ومواسياً ولكني لم أستطع الإقتراب منها, بل شعرت بالخوف الشديد وأنا انظر إليها محدثة نفسي: كيف تستطيع تحمل هكذا أمر؟ نظرت إليها وودت لو أستطعت ان أضمها قليلاً لعلها تبكي قليلاً وتفجر الحزن الذي بداخلها, ولكن كان إيمانها بالله قوي جداً, لم تصرخ ولم تندب ابنها ولم تقترف أي شيء ضد الشرع, لقد كانت مثال للأم المسلمة الهادئة والراضية بقضاء الله, بعدها بقليل أحضروا سرير ووضعوه أمامها مستقبلاً القبلة وقد غطي بالكامل بالأبيض ثم دخل عدة رجال يحملون جمال على كتفهم, عرفت بعض الرجال فهم أقربائي, وما أن شاهدت الجثة حتى شعرت بألم شديد في بطني, وبدأت بالقول: لا إله إلا الله إنا لله وإنا إليه لراجعون, كان منظر الجثة مهيباً جداً وله رهبة شديدة وقعها مؤلم بالنفس, وأردت البكاء ولكني لم أستطع, وضعت الجثة على السرير وأقترب الجميع ليرى عملية لف الجسد بالكفن, ولكني لم أرد أن أرى ذلك, لا اريد أن ارى من حاول ان يرسم الضحكة على وجهي وهو يلف بالأكفان, هجم الجميع إلى الصالة ووقف البعض على رؤوس أقدامهم ليروا الكفن وهو يلف جسده, يريدون أن يتفرجوا, يا له من منظر, من يستطيع تحمله, أبتعدت إلى الوراء ونظرت إلى الأرض, أردت أن أبكي ولكني لم أستطع, لقد كنت شبه مصدومة ولكني لم انتبه لنفسي, وما أن بدأ تكفينه حتى بدأ الصراخ والعويل يعلو من أقرباء جمال, تضايقت كثيراً من عملية الندب هذه, ثم سمعت صوت والده يقول: بدي جوزك يا بابا بدي شوف أولادك يا بابا, وأنا أعرف والده جيداً, رجل طيب القلب كثيراً, وما أن سمعت صوته حتى شعرت بالحزن الشديد, ومازلت اريد البكاء ولكني لم أستطع, تراجعت الى الخلف وجلست على الكرسي وأنا شاردة انظر إلى الأرض وأنا اسمع صراخ والده وعماته, وبدأت أفكر فجأة في أهلي, شعرت فجأة بالحنين الى أهلي, وتمنيت لو كنت بينهم الآن وفي ذات اللحظة, ونتيجة للصراخ والعويل فوق جثة جمال, لم يستطيعوا تكفينه بالكامل فأخذوه مرة أخرى حملاً على الأكتاف وذهبوا به الى الجامع ليتم تكفينه بعيداً عن الصراخ والعويل, وكل هذا وأمه صابرة ولا يفارق لسانها كلمة الحمد لله, ثم خرج الرجال وهم يحملون الجثة مرة أخرى, فنظرت إلى الجثة مرة أخرى وهي تعبر من أمام عينيّ, فشعرت بشيء ثقيل فوق صدري ثم قلت : لا إله إلا الله, سكن الجميع, فجأة, وبدأت انظر حولي لأرى الحزن والبكاء بكل ركن من أركان البيت, ثم أغمي على إحدى القريبات, فوقفت ونظرت حولي وبدأت أفكر كثيراً بعائلتي, إذا حدث لا سمح الله مكروه لأحد منهم كيف سيتصرفون؟ لا بد أنهم سيحتاجون لأن أكون بقربهم, لقد كان الإرباك واضح على أهل جمال, فبدأت بتخيل عائلتي وهي في وضع مشابه لهذا, لم أعد أفكر بجمال أو بالعزاء, بل كل تفكيري أصبح منصباً على عائلتي, نوبة من الحزن واليأس أصابتني, أردت البكاء والبكاء بشدة, ولكني لم أستطع أيضاً, وقفت بالقرب من الصالون وبدأت أنظر الى ابنة خالتي في محاولة مني للإطمئنان عليها فلقد شعرت بالخوف الشديد تجاهها, ولكنها كانت متماسكة أكثر من الجميع, نيالها على هذا الصبر الذي أمدها الله به, وقفت على الباب وكنت شاردة بالأرض فإذا بإحدى القريبات تقترب مني وتسند رأسها على كتفي وتبدأ بالبكاء, فنظرت إليها وقلت لها بداخلي: أرجوكي أنا منهارة كثيراً من الداخل, أرجوكي دعيني لوحدي, ولكنها لم تسمع صدى نفسي وأجهشت بالبكاء على كتفي فما كان مني إلا أن ربت على كتفيها مواسية لها, وكنت كل شوي أقترب من الصالون وأنظر إلى أم جمال لأرى هل مازالت صامدة, ثم أعود وأجلس بعيداً عن الناس, شعرت بالضيق الشديد وأردت المغادرة بعد يوم طويل قضيته بالعزاء, وقبل مغادرتي بقليل نظرت إلى جانبي الأيمن لأجد والد جمال واقف على الباب بجانبي فنظرت اليه متفحصة ملامحه وأنا مندهشة فرفع يده لي محيياً وهو يبتسم ابتسامة حزينة جداً, فقلت في نفسي: يا الله, هذا الأب المفجوع بابنه خصص لي جزء من وقته الحزين ليُحيني, فوقفت وذهبت باتجاهه وسلمت عليه وعزيته وكان واقفاً على الحائط كمن خسر الدنيا بمن فيها, لم أستطع تحمل المزيد, ذهبت إلى أم جمال وعزيتها ثم خرجت من المنزل وعدت إلى البيت مع أذان المغرب, وطوال الطريق وأنا ساكتة, فحدثتني إحدى خالاتي ولكني كنت أفكر بأمي بشدة, فلاحظت علي خالتي حزني الشديد, وقالت: هيدي أول مرة بتحضري عزا, فقلت لها: نعم, ثم بكيت, حاول الجميع تطيب خاطري ولكني قلت لهم, ماذا لو حدث شيء ما لعائلتي هناك بالغربة, ماذا سأفعل؟ وكيف سيتصرفون من دوني؟ حاول الجميع تهدئتي, وتداركت نفسي, ثم عدت إلى البيت وظللت طوال الثلاثة أيام التالية وانا في حالة صمت مطبق, لم أستطع أن اتفوه بكلمة, لقد كنت تحت تأثير الصدمة, ولم تغب عائلتي عن بالي أبداً, ذهب الجميع ثاني وثالث أيام العزاء ومازالوا يذهبون وسيذهبون طوال هذا الأسبوع, ولكني لم أذهب إلا أول يوم العزاء, وقد وعدت نفسي بأن لا أذهب إلى أي عزاء بعد ذلك, لقد كان هذا اليوم اليتيم عاطفي جداً وقاسي جداً, لم أرد أن أمر بنفس التجربة مرة أخرى, مر الأسبوع بالكامل كئيب وحزين, وشعرت باليأس الشديد, لقد كنت راغبة بالذهاب للإطمئنان على ابنة خالتي ولكن نفسيتي لم تكن جاهزة لزيارة ذلك المنزل مرة أخرى, هذا شعوري ولم أعرف جمال إلا من أسبوع فقط, وأنا الغريبة عنه كلياً, فكيف سيكون شعور أمه وأباه وهما من ربياه كل شبر بندر كما يقال, لماذا جمال بالذات؟ ذلك أمر رب العالمين.
عائلتي الصغيرة كم أنا مشتاقة إليكم, اشتياق كبير, ابحث
عن وجوهكم في كل مكان, على الأرصفة, في الطرقات, على زجاج السيارات, في كل مكان,
لقد فتحت هذه الحادثة عيناي على أمور لم أكن أفكر بها أو أعرها أهتمام, لقد شعرت
بقربكم من قلبي أكثر فأكثر, لأول مرة منذ قدومي إلى لبنان أشعر بالوحدة الشديدة
والحزن العميق, ولأول مرة أشعر بحاجة إلى أن أكون بقربكم, لقد شعرت بالضعف الشديد,
والوحدة والإكتئاب واليأس, الحمد الله على كل شيء, لعل الله يجعل لقاءنا قريب
جداً.......أحبكم حتى آخر يوم في حياتي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق